أهلنا الضحايا

أهلنا الضحايا

30 يناير 2024
صُور لصحافيِّي غزّة الشهداء في مسيرة مُندّدة بالإبادة، جوهانسبرغ، 28 الشهر الجاري (Getty)
+ الخط -

لا أستطيع أن أرى مشهد الضحايا من النساء والأطفال والشيوخ والشباب، وأهل فلسطين وهُم يقتلون هكذا، وهُم يهربون من حمم الصواريخ، وهُم ينتظرون في طابور للحصول على الخبز أو بعض من الطعام لكي يوقفوا مهلكة الجوع والعطش التي تنخر أجسادهم، وتسرق الضوء من عيونهم.

إنّ الخيال وكل ما أوتي الإنسان من كلّيات عقليّة وحسّية غير مؤهَّلة للتعامُل مع وضع كهذا، حيث يتعرّض مجتمع وشعب لإبادة بأبشع الطرق بينما تنظر البشرية، إمّا تواطؤاً أو عجزاً أو تجاهلاً.

لا يملك الإنسان ما يؤهّله لتحمّل هكذا حال، والشعبُ الفلسطيني خصوصاً شعبٌ مظلوم، شَقّ الأرض والسماء أحلاماً ليتعلّم ويبني، ويُصبح مجتمعاً من أرقى المجتمعات تعلّماً وأخلاقاً وروحيةً وإنسانيةً، بينما يُعذَّب وتُشوَّه صورته من أهمج الأعداء في تاريخ البشرية ومن داعميه غطرسةً وإجراماً واستباحةً لدماء وحياة الآخرين.

يرتعش جسدي وترتعش كلماتي ويرتعش أُفقي. أخرج من مكتبي باحثاً عن ملاذ ما، باحثاً عن بشرية لتفهم أنّ هذا الإجرام الصهيوني الذي يتقاطر على أحبابنا في غزّة هو إجرامٌ بغيض ودنيء إلى أسفل الدرجات. شيء ما في القلب ينفطر، يودّ لو تستيقظ البشرية، والغربية الرسمية على وجه الخصوص، من عنجهيتها وشراستها وبربريتها. كلُّ ما في الروح يتألّم.

تقهرنا صور الموت وهي تتراكم في طرقاتك يا غزّة

يتقاطر القتل والموت على أبناء وبنات شعبنا، هؤلاء دُرر البشرية كما أعرفهم وأَلِفْتُ وجوههم، وهُم يحاولون النوم في مراكز إيواء للاجئين تفتقر إلى أدنى مقوّمات الحياة. يتعلّقون بالحياة لأنّهم أهلٌ لها، لأنّها تليق بهم، ولأنّها حقٌّ لا يمكن لأحد أن يسلبهم إياه مهما كانت الذرائع. والقتلة من الغزاة المحتلّين ليست عندهم ذريعة واحدة يُعتدّ بها ليكونوا مصّاصي دماء ومجرمين ولهذه الدرجة ضدّ هؤلاء الناس الذين يعلّمون البشرية معاني التضحية والصبر والمعنى أن تكون في هذه الحياة.

إنّ عجز اللغة وفجعها أمام واقع ما يحدث في غزّة عجزٌ تتصدّع من قهره الجبال، وتنتحب على هذه البلادة اللاإنسانية، تلك التي تغضُّ الطرف عن الموت في غزّة والضفّة الغربية، وعن إجرامية كيان الاحتلال المطلقة والمتكبّرة إلى أبعد مدى.

صور الضحايا تتراكم على قلوبنا، هؤلاء الذين وجوههم وجوهنا، وعيونهم عيوننا، وأرواحهم أرواحنا، تصعد أمامنا، وننتظر خلاصاً ما. ولا خلاص هناك، ولا خلاص هناك، ولا معنى ولا طريق خارج المقتلة، وخارج العذاب والمعاناة.

"ربّنا أفرغ علينا صبراً"، نُتمتم بها، ونستأنس، علّ حركةً ما في هذا العالم الموحش تقلب الموازين، تُغيّر الأشياء، علّ قوّة ما تسمع عذاب المسحوقين، وتنتصر لهم، بينما يتقاطر الموت والعذاب على أعينهم المتعبة وظهورهم المثقلة بسواد الظلم والظالمين.

ستبقون أسمى آيات الحبّ في قلب كلّ حرّ وقلب كلّ شريف

غزّة، هذه المدينة اللامنطقية من حيث حصارها، وزجّها خلف الأسلاك الشائكة، لا تشبه تاريخ أحد، ولا تشبه عذاب أحد، ولا يشبه القهر المفروض عليها قهر أحد، وأعداؤها القريبون والبعيدون فقدوا حتى القدرة على التظاهر بالإنسانية. يقتلونكِ يا غزّة، يتبارون على إبادتك، وعلى محو ثقافتك، يملأ الحقد قلوب القتلة من شبابهم وبناتهم وعصاباتهم ومجتمعاتهم، فلا يرون فيكِ خيراً، ولا معنى. بينما أنتِ دائماً تعجّين بالخير، ببراءة الأطفال، ببركة البحر التي تتلألأ في وجوه أهلك.

ولم أرَ في حياتي حلاوةً ونقاوة وجمالاً أصفى ممّا رأيتهُ فيك يا غزّة، يا حبيبتي حتى آخر ذرّات الكون، حتى آخر صرخة فيه. إنّ البراءة بكلّ أطيافها ومعانيها تتجلّى في هذه المدينة التي يُقتل أهلُها وتُغلق الأبوابُ جميعاً في وجهها. هي وحدها عند آخر ما في المعنى من صحّة تُقاوم، وتتعذّب، وتموت وتصرخ في وجه العالم المشوَّه أخلاقياً وجمالياً.

لن يكون هناكَ معنى بعدك يا غزّة، ولن تكون هناك أخلاق. سيكون هناك خراب. ستُصبح شريعةُ الغاب أقبحَ وأشدّ، لأنّ مجرمي العالم ممّن يقتلونك ويجرّبون أبشع أصناف الموت بأبنائك وبناتك سيستمرّون بفرض الموت والدمار بِاسم الحضارة المتغطرسة وبِاسم التفوّق المشؤوم على غيرك من المستضعفين والمساكين الذين لهم حقوق سياسية وقانونية ووجودية لا لَبس فيها. هؤلاء لا يعرفون كيف يتعايشون مع الآخر حقّاً، المختلف في المعنى والجوهر، والمختلف القادر على إثراء الحياة البشرية وتجميل الإنسانية المشوَّهة والمغيَّبة بآخر صناعات الاستعباد التكنولوجي من أسلحة الفتك والموت، وأحدث أنواع الكذب الدبلوماسي من طراز نتنياهو ومعتيه الغربية وغيرها.

صور الموت وهي تتراكم في طرقاتك يا غزّة تقهرنا.

كيف سترقدون بسلام يا أحبابنا يا أهل غزّة؟ من سيُكرمكم بدفنكم، وقد حُرم الكثير منكم من أبسط الحقوق هذه؟ كيف هذا الموت وأنتم جائعون، وأنتم مقهورون؟ هل نتعزّى بمقولة الإمام علي "موت الصالح راحة لنفسه، وموت الطالح راحة للناس". نحسبكم من الصالحين يا أهل غزّة. استريحوا حيثما شئتم وكيفما أردتم فلا يوجد في الأرض أطهر عنواناً للكرامة منكم.

هل أذكر كلمة الحبّ وأكرّرها مرّة تلو الأُخرى بينما أنتم تتجرّعون مرارة الكراهية من المحتلّ الصهيوني، وتموتون في الطرقات، وفي الأسواق، وفي أماكن النزوح وفي الخيام، وفي المستشفيات، وتموتون وأنتم ترون الموت يتكدّس حولكم.
ستبقون أسمى آيات الحبّ في قلب كلّ حرّ وقلب كلّ شريف، وهؤلاء كُثُر في كلِّ مكان في هذا العالم الثري بالجمال، والمحكوم بالقبح عالمياً. ارقدوا بسلام رغم كلّ القهر، وكلّ الظلم، رغم كلّ المستحيلات.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية

المساهمون